يتراجع الاقتصاد، وكذلك الأمر بالنسبة للطلب على الإعلانات. على الأقل، تُعدّ هذه هي الطريقة التي بررت بها شركة "ميتا بلاتفورمز" الشركة الأم لـ"فيسبوك"، أول هبوط ربع سنوي لها في الإيرادات الأسبوع الماضي. وكرر منافسا وسائل التواصل الاجتماعي شركة "سناب" وشركة "تويتر" الحديث المتشائم، ما أسفر عن تفاقم انخفاض أسعار الأسهم في السنة الحالية في القطاع.
بالتالي، من الغريب أن بعض لاعبي المدارس القديمة في مجال الإعلانات في أوروبا، بداية من وكالات تعمل بأسلوب مسلسل "رجال ماد" (Mad Men) الذي يجسد الصناعة في حقبة الستينات إلى مشغلي اللوحات الإعلانية، أفادوا بوجود تجربة أكثر تفاؤلاً. تشير التجربة إلى أنه يوجد تحولات أعمق تجري في قطاع التكنولوجيا والإعلام عقب وباء كوفيد-19 وحرب أوكرانيا، وأن نمط "رجال ماد"، لا يمتلك كافة الإجابات.
سجلت شركة "بابليسي" (Publicis SA) والتي تتخذ من باريس مقراً لها، وهي من بين أكبر 4 وكالات حول العالم ومالكة شركة "ليو بورنيت" (ليو بورنيت) وشركة "ساتشي أند ساتشي" ( Saatchi & Saatchi)، ارتفاعاً في الإيرادات بنسبة بلغت 21% في الربع الثاني وزادت من مستوى توقعات مبيعاتها للسنة الجارية. قال الرئيس التنفيذي، آرثر سعدون، الذي تولى المسؤولية في 2017 من أيقونة القطاع موريس ليفي، إن الشركة "متأهبة" للتصدي للتباطؤ الاقتصادي المحتمل. إعلانات خارجية
بينما كان الربع الثاني متفاوتاً في الأداء بالنسبة لبعض شركات نشر البث والمطبوعات، أعلنت شركة "جيه سي ديكو" (JCDecaux SA) الفرنسية، أكبر شركة إعلانات خارجية على مستوى العالم، عن ارتفاع 22% في نسبة نمو المبيعات الفصلية الأساسية، حيث واصلت مجموعتها المكونة من اللوحات الإعلانية ومحطات الحافلات وأثاث الشوارع الأخرى في جذب السيولة النقدية. تتوقع الشركة تحقيق نمو أكثر في الإيرادات في الربع الثالث.
يثير هذا التباين السخرية، نظراً لأن هذه هي أنواع الشركات التي تفوقت عليها شركات التكنولوجيا الكبرى بقدرتها على جمع كميات هائلة من البيانات، وجذب اهتمام المواطن الرقمي لجيل ما بعد الألفية وابتلاع شريحة هائلة من الإنفاق التسويقي في السنوات الأخيرة. في 2021، استحوذت أكبر 5 شركات تكنولوجيا على 409 مليارات دولار من عائدات الإعلانات، أي أكثر من نصف إجمالي حجم السوق، بحسب شركة "غروب أم" (GroupM)، والتي كانت في 2016 115.5 مليار دولار. في تلك الفترة الحاسمة، هبط دخل الإعلانات في شركة "جيه سي ديكو" والإذاعة الإسبانية "ميديستا إسبانا كوميونيكيشنز" (Mediaset Espana Comunicacion SA).
إذا كان هذا النمط يتلاشى حالياً، فيعود ذلك إلى ضعف سيطرة المعلنين على وسائل التواصل الاجتماعي. بينما تحتفظ شركة "أمازون" وشركة "غوغل" التابعة لـ"ألفابت" بمعرفة وثيقة عن تسوقنا ومصطلحات البحث على الإنترنت، كشفت "فيسبوك" وبعض الشركات الأخرى محدودية معلوماتهم: الاعتماد على البيانات الشخصية التي تكون عرضة لقيود الجهات التنظيمية والرأي العام، وشعور سائد بانعدام الثقة من المعلنين جراء انعدام الشفافية والمنافسة المتصاعدة لجذب الانتباه من قبل الوافد الجديد شركة "تيك توك" ما خفف من سيطرتهم الجماعية. إعلانات الإنترنت
لا تعاني الإعلانات عبر الإنترنت بقدر متساوٍ: يشير جيمي ماكيون، من شركة "إنديرز أنالالسيس" (Enders Analysis)، إلى أن المعلنين يمنحون الأولوية للإعلان على عمليات البحث ويقلصون من نوع إعلانات العرض التي تزخر بها "أخبار فيسبوك". يتسق ذلك مع الاستجابة للاقتصاد الأضعف، ولكنه يدلل أيضاً على صعود المشكلات طويلة الأمد على السطح، حيث تتغير إرشادات المحتوى بصورة غير متوقعة. تسفر الضغوط الحكومية الجديدة ضد المعلومات المضللة وحالة الاستقطاب السياسي عن مستقبل غامض: تتجهز أوروبا لتشديد الرقابة على المحتوى، بينما تُصدر بعض الولايات الأميركية ضجيجاً إزاء حماية حرية التعبير.
تجعل شركة "أبل" عملية تتبع نشاط مستخدمي "أيفون"مسألة صعبة، بينما تقوم شركة "غوغل" بالتخلص التدريجي من استخدام ملفات تعريف الارتباط الخارجية على متصفح "كروم". من الواضح أن قيود "أبل" تلحق الضرر بقدرة "فيسبوك" على كسب الأموال، إذ حذرت شركة مارك زوكربيرغ من أن التغييرات ستحقق انكماشاً بقيمة 10 مليارات دولار في الإيرادات السنة الجارية.
وسط عالم وصفه سعدون من "بابليسي" بأنه "بدون ملفات تعريف الارتباط"، تعثر وكالات ومنصات إعلامية تنتمي للنهج القديم على طرق أكثر للتنافس مع المنصات المغلقة لشبكات التواصل الاجتماعي. تشتري "بابليسي" ونظيراتها شركات البيانات على غرار "إبسيلون" (Epsilon)، ما يوفر للعملاء وصولاً أفضل إلى المعلومات الشخصية المتحصل عليها مباشرة من المستهلكين بموافقتهم، والمشهورة بمسمى بيانات الطرف الأول.
في نفس الوقت، قطع قسم اللوحات الإعلانية لدى شركة "جيه سي ديكو" شوطاً طويلاً في الذهاب بعيداً عن الملصقات الثابتة التي ظهرت بجانب ثقافة ملصقات السيارات التي تركز على المستهلك في الطرق السريعة في القرن العشرين. تتحول للرقمية بطريقة متنامية وتشتمل على مستوى معين من تعقب المعلومات، مثل بيانات الموقع، التي تتيح لها توفير حملات إعلانية تستهدف المستهلكين "النباتيين أصدقاء البيئة"، كواحد من الأمثلة. العقبات
هذا لا يعني أن هذه الشركات حصينة ضد التباطؤ الاقتصادي، لكن بدلاً من ذلك تحولت الاتجاهات الأخيرة في فترة ما بعد وباء كورونا لصالحها. في حين أن عائدات "جيه سي يدكو" قد تضررت في الصين، حيث يتواصل الإغلاق بلا هوادة، ولذلك فإن تدافع المستهلكين في المناطق الأخرى إلى المطارات ومراكز التسوق والنقاط السياحية الجذابة، حتى في وقت معدل التضخم العالي، لاقى صدى جلياً لدى شركات التسويق، حيث جرى استبدال الذهاب خارج المنزل بالبقاء عالقين أمام شاشات الكمبيوتر. تعتبر شركات صناعة السلع الفاخرة هي الفئة الأولى للمعلنين في الشركة، والتي أثبتت قدرتها على مقاومة الضغوط التضخمية حيث تُترجم عملية تسويق نمط حياتهم البراق إلى ملصقات أفضل من وحدات البكسل.
كما أثبتت الوكالات قيمتها على إثر وباء كورونا. يفترض يان ويتاكر من شركة "ليبرتي سكاي أدفيسورز" (Liberty Sky Advisors) للاستشارات الإعلامية أن العلامات التجارية قد أدركت أنها لا تملك معدل نقل البيانات أو القدرة على الاعتماد على استجابات التسويق الداخلية لبيئة المستهلك الجديدة والمتطورة، ومن ثم فهي ترجع إلى نمط مسلسل"رجال ماد" القديم.
ما سيجري بعد ذلك يتوقف بطريقة كبيرة على مدى سوء التباطؤ الاقتصادي. من الواضح أن الموقف حساس، وحتى الفعاليات المرتقبة المرتبطة بقوة بالإعلانات مثل بطولة كأس العالم في قطر قد لا تكون كافية لتعويض الركود الاقتصادي الحاد ووضع حصص مقننة للمستهلكين من الطاقة في شتاء العام الحالي. ما زالت "غروب أم" تعتقد أن منصات الإعلانات الرقمية المتخصصة في مجال واحد ستنمو بنسبة 11.5% السنة الجارية على أساس سنوي، وتشكل 73% من إجمالي القطاع في 2027.
في الوقت الراهن، رغم ذلك، تتصدى خوارزميات مبيعات الإعلانات في "ميتا" بقوة لمنافسيها - وهذا شيء يحتفل به الناس العاديون في مجال التسويق.