لم أقرأ عنه إلا مؤخرًا، مجنون قديم من مجانين الكلمة، الذين يشكلون من طينها تماثيل ترهب الطغاة بعيونها المليئة بالأسرار، المستبدون دائما يخافون الغامض ويرهبون المجهول، في جوف التمثال حية قد تلدغهم، يأبون أن تمر عليهم الكلمات السحرية، فربما تحولت إلى حبل يلتف حول أعناقهم ويشنقهم.
«خارمس» واحد من هؤلاء السحرة الذين يلقون بحبال الكلمات، فتتحول إلى ثعابين تلتهم الأكاذيب العادية. اختار العبث ليهدم القلاع الحصينة، أبت طبيعته المبدعة التأطر بالمعايير الرسمية التي وضِعَت للأدباء للتقيد بها، وعبر عن ذلك بوضوح: «لا تعنينى إلا الترهات وما لا ينطوى على أي معنى عملى، وتعنينى الحياة بمظهرها اللا معقول، ولا أطيق كلمات مثل: البطولة والتحمس والاستبسال والجسارة، والأخلاق، والطهارة، والمداهنة، والمجازفة، لكننى أفهم تماما وأحترم: الدهشة والإعجاب والإلهام واليأس والانفعال وضبط النفس والانحلال والعفة، والكآبة والحزن والفرح والضحك».
(3)
ولد خارمس، هو الاسم المستعار لدانيل يوفاتشيف، في بطرسبوج عام 1905، عاش ومات في لينينجراد، أسس مع رفاقه من الكتاب التجريبيين عام 1927 حركة أوبريو الأدبية، وتعتبر هذه الحركة رائدة في «أدب العبث»، في أعوام الديكتاتور ستالين، لم يكن الفن التجريبى معترفًا به كإبداع حر، ولكن كان يصنف باعتباره عملًا سياسيا معاديا للثورة! فحدث الصدام مع السلطة التي اتهمت أعضاء الحركة بصرف انتباه الناس عن بناء الاشتراكية، واعتقل خارمس عام 1931 مع رفاقه في حركة أوبريو، التي كانت بمثابة غريم الواقعية الاشتراكية التي سادت وقتذاك، ونفى إلى مدينة كورسك، ثم أطلق سراحه بعد عامين ليعمل في وظيفة في المؤسسات الحكومية تحت المراقبة. عند اندلاع الحرب اعتقل مرة أخرى نهاية 1941، فهو شخص غير مرغوب فيه، وانتهى الأمر بوفاته جوعا وبردا في السجن في عام 1942، لم ينشر خارمس في حياته سوى قصيدتين، كتاباته كانت تعرض على جموع صغيرة في البارات والمسارح البعيدة عن الرقابة. بعد وفاته بيوم واحد دخل منزله صديقه الفيلسوف ياكوف دروسكين برفقة مارينا ماليتش (زوجة خارمس)، وأخذ كل مخطوطاته، واحتفظ بها لأكثر من ربع قرن. وعندما أخذ جليد الستالينية يذوب في منتصف ستينيات القرن الماضى، نشرت النصوص، ومع صعود الزعيم السوفييتى جورباتشوف في أواخر ثمانينيات القرن الماضى ودعوته إلى البريسترويكا، أسهم ذلك في انتشار كتابات خارمس ونصوصه، وهو يعد أول من كتب مسرحا يدخل في نطاق ما سمى بعد الحرب العالمية الثانية بـ«مسرح العبث».
(4)
وإليكم مثالان من كتاباته العبثية المذهلة:
الدفتر الأزرق رقم 10
عاش رجل أشقر، لم يكن لديه عين ولا أذن، ولم يكن لديه شعر، ولذلك فإن تسميته بالأشقر كانت افتراضيًا، وكان عاجزًا عن الكلام، فلم يكن لديه فم، ولم يكن أنف لديه كذلك، ولم يكن لديه حتى يد ولا قدم، ولم يكن لديه بطن، ولا ظهر، ولا عمود فقرى، ولم تكن لديه أحشاء داخلية. لم يكن لديه أي شىء، لهذا لا نفهم عمن يدور الحديث.
من الأفضل أن لا نتحدث عنه أكثر
* العجائز المتساقطات
من شدة الفضول سقطت إحدى العجائز من النافذة فتكسرت.
ومدت عجوز أخرى عنقها من النافذة، ونظرت إلى الأسفل على العجوزة المكسرة، بيد أنها ولشدة الفضول هوت من النافذة، وسقطت وتكسرت.
ومن ثم سقطت من النافذة عجوز ثالثة، ومن بعد رابعة، وخامسة.
وبعد أن سقطت العجوز السادسة، انتابنى شعور بالسأم من النظر عليهن، وذهبت إلى سوق ماليتسف، حيث أهديت أحد العميان شالا.