الأزمة اليمنية تدخل الآن مرحلة الخطر، باختصار: التقسيم من جديد، يمن الجنوب ويمن الشمال، انفصاليو الجنوب استولوا على عدن إلا قليلاً، سيطروا على المنشآت الحكومية، حاصروا قصر الرئاسة وغيره من المواقع المهمة، الدولة اليمنية بصفة عامة كانت تدار خلال السنوات الماضية من الجنوب، منذ أن سيطر الحوثيون على الشمال، تحديداً على العاصمة صنعاء. رئيس الدولة، عبدربه منصور هادى، الذى جاءت به ما تسمى قوات التحالف العربية ليس له مكان فى الشمال، حتى الجنوب ضاق به، أصبح يحكم من السعودية، يطير من وإلى الرياض للمشاركة فى مؤتمرات الخارج. رئيس الحكومة، أحمد بن دغر، يقوم بالمهمة فى الداخل، أصبح أقرب إلى الرحيل هو الآخر، وسط أنباء عن هروب معظم الوزراء.
رئيس الحكومة دعا قوات التحالف العربى إلى التدخل لإنقاذ الموقف الذى سماه «الانقلابى»، رغم إدراكه أن قوات الانفصال تم تدريبها وتسليحها فى إحدى دول التحالف، كما هو الحال مع القوات الحكومية تماماً، طائرات التحالف تجوب سماء عدن دون تدخل، وسط أنباء عن قصف طال الحرس الرئاسى، فى عملية إسناد لقوات الانقلاب!! هى المأساة الحقيقية التى يعيشها اليمن حالياً، مأساة اختلاط الأوراق، كل المتصارعين، دون استثناء، يحصلون على المال والسلاح من كل الأطراف الخارجية دون استثناء أيضاً، خصوم اليوم قد يصبحون بين لحظة وأخرى حلفاء الغد، المواجهات المسلحة فى كل مكان، الأمراض والجوع أيضاً فى كل المحافظات، الدمار فى كل موقع، بدا واضحاً أن هذا هو المراد لليمن ومن اليمن.
اللواء عيدروس الزبيدى، قائد المقاومة فى الجنوب، لا يخفى نوايا الانفصال، شكّل سلطة موازية «لإدارة محافظات الجنوب وتمثيلها فى الداخل والخارج برئاسته»، يردد دائماً نيته لإجراء استفتاء بين أهل الجنوب لتحقيق هدف الانفصال، دائماً يُحمِّل الحكومة مسؤولية تدهور الأوضاع بإطلاق النار على متظاهرين سلميين، وهو ما يجبره على التدخل عسكرياً «لحماية شعبنا الجنوبى»، على حد قوله، منح الرئيس اليمنى مهلة زمنية لإجراء تغييرات حكومية، متهماً سلطته بالفساد، بعد انتهاء المهلة جاء التحرك العسكرى.
الغريب فى الأمر هو موقع مصر على الخارطة اليمنية، يخطئ من يعتقد أن اليمن فى قارة مختلفة عن مصر، أو أن اليمن حضارة مناوئة لحضارة مصر، أو أن مستقبل اليمن يمكن ألا يؤثر على مستقبل مصر، أو أن الأمن القومى لمصر يمكن أن يتبلور بمنأى عن اليمن، أو دون وضع اليمن فى الاعتبار، لم يكن التدخل العسكرى فى اليمن فى ستينيات القرن الماضى إلا إدراكاً لهذه الحقائق، لم يكن الوجود المصرى فى اليمن عموماً من مدرسين وأطباء ورجال دين وغيرهم إلا إدراكاً لأهمية ذلك التواصل، ربما كان اسم «باب المندب» هو الأكثر استخداماً، محلياً ودولياً، حين الحديث عن أمن البحر الأحمر، ممثلاً فى أمن قناة السويس، أو أمن مصر بشكل عام.
ما الذى تغير، وما الذى حدث، لماذا أهملنا اليمن، لصالح من ولحساب من، وما هو الثمن، أو ما هى الصفقة، ما الذى يمكن تعويضه باليمن، ماذا يعنى التوتر فى باب المندب، ما الذى يعنيه وجود قوات أجنبية، غربية أو حتى عربية فى اليمن، ما هو المقابل لفقدان ما يصل إلى ٢٠ ألف شهيد مصرى باليمن ذات يوم، وقبل كل هذا وذاك ماذا يعنى بالنسبة لمصر تقسيم اليمن إلى دولتين أو عدة دويلات، وهو الأمر الذى أصبح واقعاً على الأرض حتى لو تأخر الإعلان عنه رسمياً، ماذا يعنى وجود أنظمة متطرفة فى اليمن، وماذا يعنى تقسيم السيطرة على الأرض ما بين إيران والسعودية والإمارات تحديداً، بمباركة القوى الكبرى معظم الوقت، أسئلة كثيرة أصبحت تحتاج إلى إجابات.
الغريب فى الأمر هو أن الاهتمام بالشأن اليمنى بدا أمريكياً وروسياً وغربياً أكثر منه مصرياً، البيانات الصادرة من العواصم الكبرى تؤكد ذلك، أزمة الجنوب الأخيرة نالت منهم اهتماماً كبيراً، سواء من خلال البيانات الصادرة، أو التحرك على المستوى السياسى، الصمت المصرى ليس له ما يبرره، حتى لو كان البديل الاصطدام بمواقف أخرى لا تسعى أبداً إلى استقرار هذا البلد الذى كان سعيداً، كما سجلته ذاكرة التاريخ، ذلك أن ما يجرى هناك لم يعد مقبولاً، لا بحكم القانون ولا الشرع ولا العرف، وهو الموقف الذى يجب أن تتبناه مصر بصوت عالٍ، وليس على استحياء لحسابات ضيقة عبثت بالمنطقة أيما عبث.
ما تجدر الإشارة إليه هو أن الوجود المصرى فى المياه على مشارف اليمن ليس كافياً، ذلك أن الأحداث تدور رحاها على اليابسة، وقد نفاجأ بما يصعب تداركه فى المستقبل، القضية بالنسبة لمصر تمثل أهمية استراتيجية قصوى، أكثر من أهميتها للقوى المتصارعة هناك، الأهم من ذلك أن هناك قبولاً لمصر بين فرقاء الداخل أكثر من كل هؤلاء أيضاً، ذلك أن مصر لا أطماع لها فى اليمن من أى نوع، ولا نوازع طائفية، على خلاف القوى والعواصم الأخرى، التى باتت تشكل عداءً واضح المعالم للشعب اليمنى، لم يعد يرى فى وجودها سوى القتل والدمار.
أعتقد أنه آن الأوان لوقفة مع النفس، مع الضمير، مع ما فيه صالح مصر وشعبها، حماية اليمن وشعب اليمن من ذلك العبث الصبيانى الحاصل هناك، حماية اليمن من التقسيم، لماذا تنازلنا عن كل الأوراق التى كانت بين أيدينا، من السودان وإثيوبيا، إلى ليبيا ودول المغرب، وحتى فلسطين ودول الشام، باختصار: هنا اليمن الذى يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندى، بامتداد ساحل بحرى ذى أهمية قصوى للتجارة العالمية، يبلغ ٢٥٠٠ كيلومتر، أين مصر؟!